أمر الله المسلمين أن يتجهوا في صلاتهم إلى قبة واحدة هي الكعبة المشرفة في مكة المكرمة فقال تعالى : (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره)(1). ومعنى (فول وجهك شطر المسجد الحرام) أي قبله كما قاله المفسرون(2). أما الذي يصلي وهو يشاهد الكعبة فقط أمر بأن يتجه بجسمه نحو عين الكعبة.
فعن ابن عباس قال لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه الكعبة (3).
وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين(4).
وإذا كانت مشاهدة الكعبة فضيلة يؤجر عليها المسلم كما ثبت ذلك من قول ابن مسعود (5): فإن الذي يصلي إلى عين الكعبة أكمل توجهاً نحو القبلة من غيره.
وعندما دخل اليمنيون في دين الله أفواجاً (6) أرسل لهم معلمين يعلمونهم الدين كان منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري، ووبر بن يحنس وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
أن رسول الله (أمر وبر بن يُحنس الأنصاري حين أرسله إلى صنعاء والياً عليها فقال: (ادعهم إلى الإيمان فإن اطاعوا لك به فاشرع الصلاة فإذا أطاعوا لك بها فمر ببناء المسجد لهم في بستان باذان من الصخرة التي في أصل غمدان واستقبل به الجبل الذي يقال له ضين).
فلما ألقى اليهم وبر هذه الصفة من النبي صلى الله عليه وسلم: (في المسجد قدِم أبان بن سعيد فأسس المسجد على هذه الصفة في بستان باذان في أصل الصخرة واستقبل به ضيناً).
وقال الرازي : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم(إلى وبر يبني حائط باذان مسجداً ويجعله من الصخرة إلى موضع جدره ويستقبل بقبلته ضيناً).
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم(فمر ببناء المسجد لهم في بستان باذان من الصخرة التي في أصل غمدان) وما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى وبر (يبني حائط باذان مسجداً ويجعله من الصخرة إلى موضع جدره) هو تحديد دقيق لموضع المسجد ومكانه.
المحراب من الخارج ـ المستقبل به ضين
جبل ضين المأمور باستقباله في الحديث
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم ـ المعصوم من الخطأ ـ هو الذي حدد الصفات التي يكون عليها المسجد من حيث دقة الموقع، وزاوية الميل نحو الكعبة، وجهة المسجد بالنسبة للكعبة، فلاشك أن هذا التوجيه سيكون دقيقاً، لذلك كان أهل اليمن ولا يزالون يعتبرونه أفضل مساجد اليمن، لأنه بني طبقاً لتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه (7).
وإذا كان من أهم صفات المسجد ضبط قبلته نحو الكعبة، فسنرى في هذا البحث كيف حدد الرسول صلى الله عليه وسلم الأوصاف والمعالم التي جعلت المصلى في مسجد صنعاء وكأنه يراها وهذا من تمام بناء المسجد.
وبهذا الوصف الدقيق من الرسول صلى الله عليه وسلم يكون قد حدد خطاً مستقيماً من موضع مسجد صنعاء إلى الكعبة في المسجد الحرام بمكة المكرمة.
الشروط المطلوبة لرسم خط بين مدينتين متباعدتين:
إن المسافة بين صنعاء ومكة هي (815كم)تقريباً فإذا أردنا رسم خط مستقيم بين مكة وصنعاء فلابدّ مما يلي:
1.وجود خريطة تعتمد على الصور الحقيقية لسطح الأرض المأخوذة بالطائرات أو الأقمار الصناعية وذلك لنتمكن من تحديد موقع المسجد. وموقع مكة تحديداً دقيقاً.
2.لابد من معرفة خطوط الطول وخطوط العرض على سطح الكرة الأرضية لمعرفة زاوية الميل بين الموقعين بالنسبة للشمال المغناطيسي.
3.لابد من معرفة مقدار ارتفاع مكة وصنعاء عن سطح البحر لنتمكن من معرفة درجة الإنحناء الناتج عن السطح الكروي لسطح الأرض.
أولاً: لقد حافظ أهل اليمن قديماً وحديثاً على موقع المسجد الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يبني فيه وذلك بالحفاظ على معالم حدوده التي حدَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم لبنائه مثل الصخرة الململمة احد حدّي المسجد كما مرّ ذكره آنفا وموقعه اليوم بين ساريتين من سواري المسجد تسمى أحدهما (المسمورة) والأخرى(المنقورة) وبعض أهل اليمن يغالون في تعظيم مسجد صنعاء فلا يقبلون اليمين من الخصم عند التنازع الشديد إلا عند المسمورة والمنقورة. أي في المسجد الذي وصفه رسول الله عليه وسلم وبيّن حدوده.
ثانياً: كل توسعة وقعت للمسجد لم يتأثر بها مسجدها القديم الذي حدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانت عن يمينه وشماله وأمامه ويفصل بينهما ساحة واسعة في الوسط وقد ذكر ذلك الرازي في كتابه تاريخ صنعاء .
فالخريطة المسطحة للأرض لا تمثل الحقيقة لأن الأرض كروية وليس مسطحة، ووضع الخرائط المسطحة ـ إذا كانت دقيقة ـ تفقدنا المسافة أو الجهة بين أي موقعين متباعدين على سطح الأرض.
1.متى تمكن الإنسان من استيفاء هذه الشروط: لم يتمكن الإنسان من وضع الخرائط الدقيقة للأرض إلا في القرن العشرين الميلادي بعد أن صنع الطائرات والصواريخ بعيدة المدى التي تحمل الأقمار الصناعية وآلات التصوير الدقيقة، وغيرها من الأجهزة.
2.ولم يتمكن الإنسان من وضع خطوط الطول والعرض الدقيقة للأرض إلا في القرن العشرين بعد أن تمكن من وضع الخرائط الدقيقة لسطح الأرض بأكمله ـ مشتملاً على البحار والجزر والقارات.
3.ولم يتمكن من معرفة المرتفاعات والمنخفضات على سطح الأرض إلا في القرن العشرين بعد أن امتلك الأجهزة الدقيقة التي تحدد له إرتفاع كل جبل وانخفاض كل وادي على سطح الأرض.
هل توفرت هذه الشروط في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب لا .. ويعرف هذا كل عاقل فضلا عن الباحثين والدارسين فتأمل إلى أول خريطة للأرض وضعها الإدريسي في عام (1154م) بعد الهجرة النبوية بحوالي خمس قرون ونصف لقد وضع اليمن جنوب شرق الجزيرة ووضع عُمان شمال شرق الجزيرة وتأمل في الخريطة التي وضعها (جيوفاني لردو) بعده بثلاثة وتأمل إلى خريطة الجزيرة العربية المأخوذة بالأقمار الصناعية لترى الفرق بين موقع مكة واليمن، فضلاً عن الفرق بين موقع مكة وصنعاء.
علماً بأن الأدريسي وجيوفاني لردو من روّاد البشرية في رسم خريطة الأرض!! بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم بقرون .
والجواب أيضاً لا ... لأن الإنسان لم يتمكن من القدرة على تحديد الإحداثيات لكل موقع في الأرض بدقة ـ ليتمكن من رسم خط مستقيم بين مدينتين متباعدتين ـ إلا بعد : صناعة الطائرات وآلات التصوير الدقيقة، ووضع خطوط الطول والعرض، واكتشاف الأجهزة التي تحدد ارتفاع المدن عن سطح البحر، وصناعة الصواريخ بعيدة المدى التي تتمكن من حمل الأقمار الصناعية إلى خارج الغلاف الجوي.
وكل هذه الشروط لم تتوفر للإنسان إلا بعد أربعة عشر قرناً من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
ملاحظة: أول قمر صناعي اطلق في تاريخ البشرية هو سبوتنك (Sputnik) أطلقته روسيا في عام 1957م. وفي العام 1958م أطلقت الولايات المتحدة قمرها الصناعي الأول الذي سمي بالمكتشف.
صورة من برنامج غوغل إرث للمسجد الحرام بمكة المكرمة
صورة عبر الأقمار الصناعية لجبل ضين في عمران وفي قمته معسكر صغير
صورة عبر الأقمار الصناعية للجامع الكبير في صنعاء
ثانياً: لو أنّا أخرجنا خطّاً مستقيماً من وسط المسجد ـ الموقع الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم لبنائه ـ كما في الصورة أدناه:
ثم أنطلقنا به على استقامته حتى نمرّ به من قمّة جبل ضين كما في الصورة التالية:
ثم أرسلناه أيضا على استقامته خطاً واحداً منطلقاً من قبلة مسجد صنعاء الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم والمحدّد الآن بالمسمورة والمنقورة مارّاً هذا الخط بقمة جبل ضين فإنّا سنجد أنه يصل إلى مكة أولاً ثم يستقرّ في جدار الكعبة متوسِّطاً ما بين الركن والحجر الأسود انظر إلى الصورة التالية:
وعند الإرتفاع إلى أعلى نجد الخط على هذا النحو:
فتكون النتيجة هكذا خط مستقيم من قبلة المسجد الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببنائه ماراً بقمّة جبل ضين ليصل إلى وسط الكعبة المشرفة.
وجه الإعجاز في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
• لا يستطيع إنسان أن يرسم خطاً مستقيماً على السطح الكروي للأرض بين مدينتين متباعدتين إلا إذا توفرت له الخرائط الدقيقة المأخوذة بالطائرات والأقمار الصناعية وآلات التصوير الدقيقة، وعلم بخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وعرف إرتفاع المدن عن سطح البحر، ولم يتيسر كل هذا للإنسان إلا بعد أربعة عشر قرناً من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل ألف وأربع مائة عام حدد خطاً مستقيماً بين مسجد صنعاء وجبل ضين والكعبة عندما حدد أوصاف المسجد الذي أمر ببنائه في صنعاء.
النتيجة خط مستقيم من المسجد الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه ماراً بقمة جبل ضين ليصل إلى وسط الكعبة المشرفة
• فحدد الموضع والمكان بقوله: (فمر ببناء المسجد لهم في بستان باذان من الصخرة التي في أصل غمدان) فيما كتبه عليه الصلاة والسلام لوبر بن يحنس بأن (يبني حائط باذان مسجداً ويجعله من الصخرة إلى موضع جدره).
• وحدد عليه الصلاة والسلام زاوية ميل مسجد صنعاء من جبل ضين والكعبة بقوله صلى الله عليه وسلم (فأجعله عن يمين جبل يقال له ضين).
• وحدد الجهة الدقيقة للكعبة باستعمال معلم واضح لأهل صنعاء (القديمة ) هو جبل ضين.
• وجاءت الطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية تصور الأرض بمدنها وجبالها وبحارها فقدمت لنا صورة حقيقة للأماكن الثلاثة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد صنعاء، جبل ضين الكعبة ـ فإذا بها تقع على خط مستقيم رغم بعد المسافة وكروية الأرض وعدم توفّر الشروط والوسائل العلمية زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
• وكل ذلك تم بعبارة سهلة وعلامة واضحة جلية وعمل متقن دقيق.
• وعليه الصلاة والسلام لم يزر اليمن ولا رأى جبل ضين، ولا شاهد بستان باذان ولا الصخرة الململمة ولا يعلم الناس في زمنه المسافة التي تفصل بين مكة وصنعاء.
• كل ما سبق يشهد أن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ليس في مقدور بشر في عصره وحتى بعد عصره بقرون طويلة وإنما هو الوحي والعلم الإلاهي وصدق الله القائل: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى).
صدقت يا رسول الله... صدقت يا رسول الله... صدقت يا رسول الله..